امرأةُ النخيل
كأنني …
أحاورُ هديل الملكوتْ
بشيءٍ من غوى الطفولةِ وانهمار ندايَ
في غفلةٍ ماطرة …
أستعيرُ وجودي , في خريف الأيام
حملتُ بهاء النخيل عناقيد جوى
بين الواحات تستطيلُ مآذن بيضاء
وتدنو مني فاجأةٍ فأدنو ..!!
رأيتُ وجهكَ كالشمس يحاصرني
في اتجاهاتي الحانية …
أدمنتُكَ لونَ قمري
وهو يرحلُ ببياضي إليكَ
ويجنحُ المدى للمدى …
يَجنحُ نحو الصدى …
ويرجع الآذان هادراً :
أحبكَ … أحبك .. أحبك
أحببببببببببببببببببببببببك …
ويعلو نحو النخيل والفضاء
أمتشقُ بياض السماء من أعين الغيمات …
وَ انتشاركَ فوق الغمامْ
ربما يهجرني الظلام …
وتعود كالفجر بين يديَ
قبل شأوك بلحظةِ حب …
أُخادعُ بالصبرِ درب الغياب المُملْ
وأراهن على نسيان الوقت
أراهنها بعناد الجوى
حين يتهاوى من فمي الكلامْ
وَيَرتعشُ الهواء في أضالعي …
آآهٍ أيُّها المتناثرُ
عطراً خرافياً يدور بي كالشررْ المبارك …
هكذا ….
كنتُ أدعي قصائدي الماطرة
بالشهدِ الملكي ….
وأستدرجك ناهمة لمأدبة النخيل وطعم الرُّطب طعمك المختلف !!
نعم … كنتُ أزيح المستحيل …
وأنسجُ جمرا المطر بياسمين الشام …
كي يعرف راعي الصحراء أسرار الثمارْ
هل سيبلغ مداركي بشوق الرمال للبحر
ما كان لك أن تكون …
غير قيثارتي ..
لن أعلمكَ إيقاع الشعر .. والنثر …
الليلُ يَرسمُني على خَمرِ الشفاهِ
قصيدةً ثائرة …
مابين ثلجٍ ونارٍ …
دعني أُحاوركَ كريحٍ مغايرة
كسربِ يمام نثرتْ فوق التخومْ
طائرة من بين يديك … روحي
وَكم من احتمالٍ هاشَ وَ ذابْ
لعل الله يُسْعف في النائيات وجودها !!
وَيبقى بهاءَ امرأةُ النخيل في ألقَ النجومْ
تقاسم السماء … زرقة الحُبّ وَالمطر .
————————————
حين تنبت أمرأة من نخيل ، تكون وفاء دالا قد استكملت انوثتها المبتغاة ، فهي حينها فقط يحق لها خصيصا ان تحاور هديل الملكوت ، فهي بدون ذلك لن تستعيد أبدا غوايات الطفولة الدمشقية الحابلة بالاسرار والحافلة بعبق التاريخ ، المعفر بمسك دمشق عاصمة وهوية ، فمعين الطفولة الذي يمدها بغدق منهمر لا ينضب ، يستجلب الغفلة الدالية الماطرة ، دال دلال ودال دوحة ، مطر وزلال.
1 ثنائية الوجود – النخيل :
مما لاشك فيه أن النخيل بخضرته ونضارته وسموقه ظل على امتداد التاريخ الشعري العربي الممتد مصدر خصب وعطاء لا ينتهي ولا يمكن تغاضيه أو تغافله ، فهو واحات ممتدة تنضح جمالا وتقطر هياما ، مما جعله يرتبط بالعشق والصب ارتباطا وثيقا خاصة عندما نشير بالبنان إلى نوع معين من قصائد النثر التي امتدت في تخوم الوطن تترنم بتأوهات العشق ، وسهد البعد ، راجية حلو العناق وعذب الوصال ، متلبسة بخصب الطبيعة ، بعطائها وسخائها ، ودفء حضنها الذي يستلذ و يستطاب ، بل ويصير في أحيان اخرى في تماه مع المحبوب المرتجى ، مما يحيلنا على التوازي مع مفاهيم الرومانسية في مفهومها الكلاسيكي حيث تصير الطبيعة ملاذا وخلاصا.
لعل عناقيد العنب حين تتدلى لتمنح للشاعرة استعارة وجودها ، هنا تتمترس الطبيعة باعتبارها بديل ” الأنا المفتقد ” ، الذي يولد من جديد ، فيتولد هذا الوجود الذي كان معدما بل عدما ، في خريف الأيام الدمشقي.
هذا الخريف نفسه هو الذي يعتصر ألما وجراحا ودما نازفا كل يوم ، ليجسد خريف الوطن المتآكل الذي تؤكل منسأته ، وتقضم ركائزه ، فيبحث عن البنوة النافعة والنافحة والدافعة.
ان العناقيد التي تصطبغ القصيدة بها وتتزين ، هي رمز الخصب والجمال والعطاء والحضارة والرقي المفتقد ، في زمن صار سمته ” الانكفاء ، الركون ، والتيه ” ، فكأن القصيدة هنا بلا شك ، تغدو بوصلة الخلاص لهذا الوطن ، ليتناسل الخصب مع الحرف تناسلا وجوديا ، فيولد في تراصف وحدة وتكاثفا تعطي للشاعرة ترياقا أزليا ” مبحوثا عنه – مختف ” ، حتى تستظل بفئء النخيل ، ويستظل معها الوطن كاملا ، ليتخلص من ” واو الوجع ” و ” فاء الفداحة ” .
وهذا مدعاة لتسربل القصيدة بماء البهاء ورداء النقاء ، بهاء روحي قمين بالعطاء والبذل ، نقاء وجودى يعلم الآخر معنى التسامح والنبل والشموخ ، ذاك شموخ الجريد ، ونضارة اخضراره ، ثماره التي تعانق أديم الأرض وداعة وتواضعا ، تعطي سخاء ورخاء لا يضاهى ولا يوازى .
2. ثنائية المسجد – المآذن
هاهي المآذن تحضر لتعضد وجود النخيل وتسنده ، ليستنبت الرمز موغلا في الدلالة ، مقرا بهوية الشاعرة وغرقها في حضن ” الشرق – الاسلام ” ، فتستجلب المئذنة رمزا من رموز القصيدة ، غير أنها لم تستحضر فجائيا داخل تجاويف النص ، فيغدو الرمز ناتئا ونشازا ، كشأن كثير من الشعراء، وإن بدا الأمر كذلك ، فذاك إنما يعود أساسا لربط الشاعرة المآذن بالواحات ، التي سبق الحديث عنها ، هذا الربط جاء متناسقا مع توالي الأبيات ، فعلى الرغم من استطالة النخل عادة وسط الواحات الممتدة ، لدرجة تحجب معه رؤية الرائي ، فإن المآذن تستطيل وتتشح بالبياض ، فتغدو ” استطالتها ” دليلا على شموخ كلمة ” الدين ” بمعناه الكوني والراقي ، ويكون البياض ملمحا جامعا دالا على النور والضياء المرتجى باعتباره ملاذا مرتجى وحلا مرتضى من الشاعرة.
3.تيمة الحب : الحب خلاصا عند الشاعرة ” وفاء دلا “
تتناسل هذه التيمة وسط القصيدة ، لتحضر بتلوينات مختلفة تصب في بوثقة واحدة ، فهاهو وجه الحبيب شمس يحاصرها ، فيولد ادمانا يحمل كل البياض إليه في امتداد لا محدود لا يكفيه المدى ولا يغطيه امتداد الصدى .
، انه حب غريب ، فينيقي فذ ، ذلك لأنه يمتزج بترانيم الدين ، تراتيل العشق ، وهذا ما يسم حديثها عن الحب بالفرادة ، فهو عشق مقدس ، ما يجعله كذلك أن الآذان يعود راجعا ، ولكن بصوت هادر ممتد غير منته ، بعبارة الحب الأثيرة عند العاشقين ” أحبك ”
غير ان هذه الكتابة وحدها في الكلمة :” أحببببك ” ( بتكرار الباء وتعددها واستطالتها) حين أصرت الشاعرة على كتابتها هكذا ، تحمل كثيرا من الدلالات ، خاصة اذا توقفنا عند تكرار كلمة ” الباء ” وحدها دون غيرها من الحروف .
الباء كما نعلم حرف شفوي يرتبط ارتباطا وثيقا بالشفة ، وهذه الكلمة لا تقال عادة إلا بانطباق الشفتين ، وما تحمل من ايحاءات على القبلة.
باعتبارها أرقى تعبير عن الحب والهيام.
عند اتحاد الحب ، حال وجده ، بغد أن كان مفقوداً أو مغيبا بفعل اكراه قدري أو جبري حتمي، واتحاده مع حب آخر ، حب سماوي علوي ، يعلو ولا يعلى ” وهو يمثل هنا خلاصا و ملاذا من ربقة التيه والضياع واللامعنى ” ، حب تتلقفه الشاعرة عبر امتشاقها بياض السماء ، والقضاء على غيمات تلبد هذا البياض لانتشار أريج المحب فوق هذه العينات ، يأتي الفرج سريعا ، فيهجرها الظلام ، ليعود الحب غضا طريا كعادته ، نديا ، فوفاء لم تعد قادرة على مخادعة درب الغياب بالصبر ” الأيوبي ” .
انه الحب ذاك الذي ينبت بين أضلاع الشاعرة, يسكن أوصالها يعمرها ولا يغادرها ، تحاول أن تتعايش معه بتكبر امرأة شامية شرقية ، تعاند الجوى ، لكنه يأبى كعادته ، بل إنه يفضحها وينتصر عليها ، اذ يصر على ان يخرج من فمها مطرزا ، أن يشكل قصيدة ماطرة على إيقاع رطب حلو تؤثته مأدبة نخيل ، فيخرج الطعم مختلفا مميزا منمقا بياسمين الشام ، بشهي التمار ، عطش قاتل لا يرويه إلا خمر الشفاه الدمشقية ، شوق رمال بيضاء ذهبية حارقة ، لبحر بارد يضمها ، يحتويها ، فتصبح ندية طرية ، تدغدغ أرجل الواطئ عليها ، إنه الاحتواء ، و الاندماج ، بل هو حلول بمعاني صوفية إشراقية ، انه شكل جديد يبرد عواطف حارقة يشكل بنية جديدة ، لم تطرقها تلاوين القريض. ويتمثل ذلك جليا
في اتحاد بين الثلج والنار – على غير المعتاد طبعاً – ينبت الحب عبر حوار ريح مغايرة ، هي ليست ريحا عادية ، ربما تكون ريح وريحان ، في تواز مع ملفوظ القرآن ، دلالة على الفوز والظفر الأخير للروح العارجة إلى الله ، وقد تكون ريح الأمل التي تحمل ريح الحبيب ، تبرئ الأسقام وتداوي الأدواء وهي ريح لقاح ، بها تتناسل المباهج والافراح ، وتغتال الأحزان والاقراح.
هو حب إذن بني على ساميات المعاني ، يتعالى عن الجسد وعليه ، يدع الروح طائرة بين يدي الحبيب ، انه نشر للقيم والمعالي ، وسموق نحو فطرة نقية ، جبل الناس عليها ، فنسوها أو تناسوها
لكن الشاعرة الشامية ترفض كعادتها أن تغادر بهاء نخيلها ونضارته ، إنها شرقية متمنعة متشامخة ، تعادل بشموخها ألق النجوم. كيف لا وهي أمرأة تقاسم السماء زرقة الحب والمطر ؟
عبدالله شبلي أستاذ باحث في النقد والتصوف ، عضو مركز يوسف بن تاشفين للدراسات والابحاث من أجل اللغة العربية المغرب